معضلة الإعلام المصري(2) بقلم: فاروق شوشة
ظل الإعلام المصري إعلاما شموليا لنظام حكم شمولي علي مدي أكثر من ستين عاما,تعاقبت فيها عهود ثلاثة, وعندما ترددت نغمة دولة المؤسسات
ظل الإعلام المصري إعلاما شموليا لنظام حكم شمولي علي مدي أكثر من ستين عاما,تعاقبت فيها عهود ثلاثة, وعندما ترددت نغمة دولة المؤسسات
كان الواقع يكذبها باعتبارها ستارا ضبابيا يخفي تسلط الفرعون وديكتاتورية الحاكم الفرد وحين صرح السادات بأنه آخر فرعون في مصر, لم يكن يدري أنه سيجيء من بعده, وبسببه, فرعون أكثر عتوا وتحكما وفسادا في الأرض.
وأن خطورة الفساد الذي يبدأ من القمة أنه يصبح في لمح البصر قدوة لكل من تراودهم أنفسهم بتذوق حلاوة الفساد وجني ثماره, وهم كثير من قادة المجتمع: الوزراء والمحافظين ورؤساء الهيئات والمؤسسات والمصالح ورجال الأعمال الذين لم يكونوا في حقيقتهم سوي رجال مال ـ ومن هنا عظمت الطامة وأخذتنا الغاشية.
وأن خطورة الفساد الذي يبدأ من القمة أنه يصبح في لمح البصر قدوة لكل من تراودهم أنفسهم بتذوق حلاوة الفساد وجني ثماره, وهم كثير من قادة المجتمع: الوزراء والمحافظين ورؤساء الهيئات والمؤسسات والمصالح ورجال الأعمال الذين لم يكونوا في حقيقتهم سوي رجال مال ـ ومن هنا عظمت الطامة وأخذتنا الغاشية.
ولم يكن الإعلام إلا انعكاسا لهذا كله, ومرآة لكل صراعاته ومفاسده, وحين أتيح لوزارة الإعلام صنع نموذج لاتحاد الإذاعة والتليفزيون يحاكي نظام هيئة الإذاعة البريطانية, في عهد وزير الإعلام محمد حسنين هيكل, الذي اختار الدكتور مصطفي خليل ليكون أول رئيس لهذا الاتحاد, لم يطل الأمد بهذا المشروع الوليد, وضرب قانونه بإيقاف العمل به وإبعاد الوطني الشريف حقا والمثقف: منصور حسن عن مجال الإعلام, وعودة الأمور إلي قبضة وزير إعلام رأي في رئيس الاتحاد منافسا ومغتصبا لسلطانه, وسرعان ما دارت الأيام دورتها ودخلنا في عصر إعلامي يرفع شعارات الريادة والمنظومةوالسيادة الإعلامية ولم تكن سوي كلمات جوفاء, تنطق بها عقول يملؤها الخواء.
وأصبح أهم مايميز إعلامنا في عقوده الأخيرة حرصه علي الكم في الشبكات والقنوات وساعات الإرسال,أكثر من حرصه علي الكيف والنوعية, لتشهد أعياد الإذاعة والتليفزيون ـ في كل عام ـ افتتاحات جديدة يباركها رئيس الدولة, وهو ما أدي إلي منتج إعلامي باهت, وفقدان للهوية والسمات المحددة لكل شبكة أو قناة, وجاءت القنوات المحلية تكرارا ـ في معظمها ـ للقنوات الثلاث الرئيسية في القاهرة, تقلد ولاتضيف, باستثناء قناة جنوب الصعيد التي نجحت في الارتباط بيئتها الحقيقية في منطقة أسوان والتعبير عن واقع هذا الإقليم في مصر, ثقافة وفنا ومطالب وتطلعات, في ارتباط حميم بين الإنسان والأرض والتاريخ والحضارة.
وفي غمار هذا الاهتمام بالكم, تضاءل الاهتمام بالإعلامي الإنسان تدريبا وتثقيفا وحقوقا مادية ومعنوية, وانكمش الاهتمام بتطوير وتحديث الأدوات والمعدات والأجهزة, وتكنولوجيا الإعلام في كل مجالاته ومستوياته, في الإذاعة والتليفزيون, وأصبح مبني ماسبيرو بحجمه الهائل, وطوابقه المتعددة, يزخر بعمالة زائدة هي عبء علي العمل الحقيقي,وتعويق للعاملين ـ وهم قلة القلة ـ من بين خمسة وأربعين ألفا, لم تستثمر طاقاتهم واستعدادتهم, في مناخ الزحام الخانق في المكاتب والممرات والغرف الخشبية التي شوهت قلب المبني وجعلته شبيها بالعشوائيات, وماسبيرو يئن ويتوجع, ويشيخ سنة بعد أخري, بل يوما بعد يوم, الأمر الذي أدي إلي اعتكاف كثير من العاملين في بيوتهم لأنه لامكان لهم إذا حاولوا ممارسة العمل,خصوصا أن مرتباتهم وحوافزهم تصلهم حيث هم, وأن المسئولين يرحبون بهذا الغياب والانقطاع عن العمل لأنه يخفف من الزحام, والتكالب علي المكاتب والأماكن العشوائية التي تؤويهم.
والغريب أن بعض هؤلاء المنقطعين عن العمل في ماسبيرو ـ من كل القطاعات ـ لأسباب مختلفة, هم عماد كثير من القنوات المستقلة واستديوهات الإنتاج الإذاعي والتليفزيوني في كل فن من فنون العمل:
مذيعين, ومقدمي برامج, ومهندسين, ومخرجين, ومصورين, ومشرفي إضاءة, وفنيي ديكور وصوت, وتسجيلات ومونتاج وغيرها من فئات العمالة النادرة التي نزحت بعيدا عن ماسبيرو, حين ضاقت بالظلم الفادح في توزيع المكافآت والهبات, والاستجابة لمطالبهم وحقوقهم المشروعة, ومحاولة مساواتهم بغيرهم.
والحاكمون بأمرهم في الإعلام المصري يرون هذا ويسمعونه, دون أن يحركوا ساكنا, أو يحاولوا إنقاذ سفينة خربة, موشكة علي الغرق, أغري فسادها بعض من فيها بسرقة الأشرطة والأفلام والتسجيلات النادرة, التي نهبوها من مكتبات الإذاعة والتليفزيون لتتلقفها بعض استديوهات الإنتاج وبعض القنوات التي لاتملك أرشيفا مكتملا أو شبه مكتمل, تعتمد عليه برامجها وسهراتها, وبدونه يكون كل شئء عاريا لاقيمة له ولامحتوي فيه.
وقد جاء عهد كانت طلبات كبار المسئولين في الدولة تنهمر عن طريق مكاتب وزراء الإعلام لنقل مايشتهون من تسجيلات إذاعية وتليفزيونية معظمها من الأغاني والمسلسلات والحفلات والأفلام, ويصبح نقل هذه المواد الشغل الشاغل لمن يقع عليهم عبء التنفيذ, دون أن يعرفوا أبدا من سعيد الحظ الذي ستئول إليه ملكية هذه المواد والتسجيلات النادرة, وهل هو من الحكام أم من الحاشية, ومن السادة المتجبرين أم من الخدم العاملين لديهم, الهاتفين بحياتهم والنافخين في أبواقهم, والملتذين بممارسة العبودية والطاعة لهم والتفاني في خدمتهم.
لهذا,فليس عجيبا أو مدهشا أن يعلن للناس أن اتحاد الإذاعة والتليفزيون مدين بالمليارات, وأن المسئولين عنه شغلهم الشاغل الآن تدبير مرتبات العاملين ومكافآتهم للشهور القليلة القادمة, وأن عمليات النهب والسلب, والفساد والرشاوي, التي مورست وكانت في أوجها خلال السنوات الخمس الأخيرة, قد وصلت بصورة الإعلام المصري إلي الحضيض, وبالرغم من أن حقيقة المسئول الأول عن الإعلام كانت خربة وفاسدة إلا أنه وجد من مستشاريه ومن بعض أساتذة الإعلام الدائرين في فلكه ـ خدمة ونفاقا ـ من يتشدقون بميثاق الشرف الإعلامي, وهم بعيدون عن كل ذرة من الشرف, لكنهم يتبجحون ويلوكون اللغة التي يعشقها رمز الإعلام الفاسد عن المنظومة والريادة والسيادة الإعلامية التي ليست في حقيقتها إلا مفهوما نازيا, الهدف منه إسكات كل صوت آخر, وخنق كل محاولة للتمرد أو الخروج علي الفساد,, محاولة حبس العقول وغسيلها المستمر بما يلائم النظام الشمولي والإعلام الشمولي. والحديث موصول.
No comments:
Post a Comment